فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {فاصْبِرْ لِحُكْمِ ربِّك ولا تكُنْ كصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وهُو مكْظُومٌ} بهذه الآية، والآيات التي بعدها تختم سورة (القلم) التي كانت معرضا لضلال المشركين، وسفههم، وتطاولهم على رسول اللّه، كما كانت معرضا للدفاع عن القرآن الكريم، وعن الرسول، وتتويجه بهذا التاج الرباني الذي زينه به اللّه سبحانه وتعالى، بثنائه عليه، في قوله سبحانه: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ}.
ثم تتابعت آيات السورة، تتوعد المشركين، وتهددهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، إذا هم لم يستجيبوا للرسول، ولم يتلقوا ما تمتد به إليهم يده، من رزق اللّه الذي لا يسألهم عليه أجرا..
ثم يجيء هذا الختام الذي يتلّقى فيه النبي من ربه سبحانه دعوة إلى الصبر على ما يلقى من سفاهة السفهاء، وحماقة المحمقين من قومه.. فهذا هو حكم اللّه، الذي يدعوه إلى امتثاله: إنه الصبر، ولا شيء غير الصّبر..
وقوله تعالى: {ولا تكُنْ كصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وهُو مكْظُومٌ}- هو شدّ من عزم النبي على الصبر، وتوكيد لالتزامه، والتمسك به، وألا يزايل موقفه الذي هو فيه، كما فعل صاحب الحوت- وهو يونس عليه السلام- حين أخلى مكانه بين قومه، وتركهم مغاضبا لهم، بعد أن دعاهم إلى اللّه، وتوقفوا عن إجابة دعوته.. ولو أنه صبر على عنادهم، وعاود نصحهم يوما بعد يوم، لاستجابوا له، فقد كان فيهم- مع هذا العناد- بقيّة من خير، يمكن أن تكون شرارة يتوهج منها نور الإيمان، لو وجدت من ينفخ فيها برفق، وأناة، ويتلطف في الإمساك بها من غير تعجل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن موقف يونس عليه السلام: {وذا النُّونِ إِذْ ذهب مُغاضِبا فظنّ أنْ لنْ نقْدِر عليْهِ فنادى فِي الظُّلُماتِ أنْ لا إِله إِلّا أنْت سُبْحانك إِنِّي كُنْتُ مِن الظّالِمِين} (87: الأنبياء).. فيونس عليه السلام- هو الذي ذهب مغاضبا لقومه، أي محدثا الغضب من قبل أن تجتمع لديه أسبابه القويّة الداعية إليه..
وقوله تعالى: {إِذْ نادى وهُو مكْظُومٌ} بيان لحال يونس عليه السلام، وهو في بطن الحوت، ثم بيان لحاله، وهو ينادى في جوف الحوت..
فاللّه سبحانه وتعالى ينهى النبي صلوات اللّه وسلامه عليه عن أن يكون في موقف كموقف يونس- عليه السلام- حين نادى ربه في حال هو فيها مكظوم، أي مغيظ، محنق، محتنق من الغيظ، والضيق..
والكظم: مخرج النفس من الصدر، وكظم فلان: أي حبس نفسه..
وكظم الغيظ: حبسه، ومنه قوله تعالى: {والْكاظِمِين الْغيْظ والْعافِين عنِ النّاسِ}.
ومن هنا يتبين أن المكظوم، غير الكاظم.. فالكاظم، هو الذي غلب غيظه وقهره، وأما المكظوم، فهو الذي ملكه الغيظ، وقهره، وغلبه على أمره.. وعلى هذا، فإن الذي يحذّر النبي منه، هو ألا يغلبه الغيظ، كما غلب يونس عليه السلام، بل المطلوب منه، هو أن يكظم غيظه، وأن يقهره، وألا يجعل لهذا الغيظ سلطانا عليه، يحمله على مفارقة قومه، وإخلاء مكانه فيهم، كما فعل يونس..
وفى هذا يقول الحق تبارك وتعالى: {والْكاظِمِين الْغيْظ والْعافِين عنِ النّاسِ.. واللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} (134: آل عمران) فقوله تعالى: {ولا تكُنْ كصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وهُو مكْظُومٌ} أي لا تكن كيونس إذ نادى ربه، وقد غلبه الغيظ، وحمله على أن يترك قومه، وينزل في هذا المكان الضيق، وهو بطن الحوت.
فالذى يحذّر منه النبي، ليس هو مناداة ربه، وإنما مناداته في حال يكون قد غلبه فيها غيظه.. فإن دعاء اللّه، واللّجأ إليه- وإن كان محمودا على كل حال وفى كل حال- إنما يكون في أحمد أحواله، وأعلى مقاماته، حين يكون صاحبه متجملا بالصبر على ما أصابه، ممسكا بزمام نفسه، ثقة باللّه، واطمئنانا إليه، في أشد الأهوال، وأعظم المحن، فلا يضيق بمحنة، ولا يكظم بشدة، لأنه مسلم أمره إلى للّه، لا جيء إلى حمى سلطانه..
قوله تعالى: {لوْ لا أنْ تداركهُ نِعْمةٌ مِنْ ربِّهِ لنُبِذ بِالْعراءِ وهُو مذْمُومٌ فاجْتباهُ ربُّهُ فجعلهُ مِن الصّالِحِين} أي أن يونس- عليه السلام- لولا أن أدركته نعمة ربه، وإحسانه إليه {لنُبِذ بِالْعراءِ وهُو مذْمُومٌ} أي لخرج من بطن الحوت وهو مذموم ملوم من ربّه.. ولكن اللّه سبحانه وتعالى، استجاب له، حين دعاه من بطن الحوت.. ثم اختاره ربّه من بعد أن خرج من بطن الحوت، فخلع عليه لباس النبوة، الذي عرّى منه أو كاد، حين فارق قومه.. فخروج يونس من بطن الحوت، هو رحمة من رحمة اللّه به، وإعادته إلى وضعه الأول في مقام النبوة، هو نعمة مجددة أنعم اللّه بها عليه، إذ جعله بها من الصالحين، الذين سلموا من الذم، ونجوا من الملامة والعيب.. إنه بعث جديد له.
ففى قوله تعالى: {فاجْتباهُ ربُّهُ فجعلهُ مِن الصّالِحِين}- إشارة إلى حال جديدة، أعقبت الحال التي خرج عليها يونس من بطن الحوت، فهو- عليه السلام- خرج كما يخرج السجين من سجنه، يحمل معه آثار الذنب الذي كان منه.. ولكن اللّه سبحانه تدارك عبده، فأزال عنه هذا الأثر، وخلع عليه خلعة النبوة التي كانت تنتظره، على باب السجن الذي خرج منه، وبهذا ردّ إليه اعتباره، بعد هذا البلاء العظيم..
والسؤال هنا: ماذا كان من النبي- عليه الصلاة والسلام- من موقف مشابه لموقف يونس- عليه السلام- حتى ينبّه إلى الحذر من أن يأخذ الطريق الذي أخذه صاحب الحوت؟
نقول- واللّه أعلم-: كان النبي صلوات اللّه وسلامه عليه- قد بلغ به الحال بينه وبين قومه، ماملأ صدره ضيقا بهم، وحيرة في أمرهم، بعد أن لقيهم بكل طريق، وجاءهم بكل حجة، فلم يكن منهم إلا السفاعة، والتطاول، والإمعان في المجافاة له، والأذى لأصحابه الذين آمنوا به، وإن الموقف ليبلغ غايته من التأزم والضيق، حين يخرج النبي صلوات اللّه وسلامه عليه إلى {ثقيف} بالطائب، ويعرض عليهم دين اللّه، ويبلّغهم ما أرسل به إلى الناس، ثم لا يلقى منهم إلا استهزاء وسخرية، وإلا تطاولا بالألسنة، ورجما بالأحجار، فيتركهم وقد أيئسوه من أن يجد لدعوته أذنا تسمع، أو عقلا يعى وهنا تنزل تلك الآيات على الرسول الكريم، داعية إياه إلى الصبر، محذرة إياه من أن يأخذ موقفا كموقف أخ له من أنبياء اللّه قبله، هو يونس عليه السلام..
وهذا على أن هذه الآيات مكية، في سورتها المكية.. أما على الرأى الذي يقول إنها آيات مدنية في السورة المكية، فإنه يجعل نزول هذه الآيات في أعقاب غزوة أحد، بعد أن أصاب المشركون ما أصابوا من صحابة رسول اللّه، ومنهم عمه حمزة. رضى اللّه عنه، وبعد أن أصيب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، من سهام المشركين حتى شجّ رأسه، وكسرت رباعيته وسال دمه.
وعلى أىّ، فإن نزول هذه الآيات، كان في حال اشتد فيها ضيق النبي، وكاد يقع اليأس في قلبه من إيمان هؤلاء المشركين، الذين ركبوا رءوسهم، وأسلموا للشيطان قيادهم..
هذا، وفى تلك الآيات إشارة إلى أن عاقبة هؤلاء المشركين، هي الإيمان باللّه، والاستجابة للرسول، كما آمن قوم يونس، بعد أن عاد إليهم، وجدّد دعوتهم إلى الإيمان باللّه.. كما يقول سبحانه: {فلوْ لا كانتْ قرْيةٌ آمنتْ فنفعها إِيمانُها إِلّا قوْم يُونُس لمّا آمنُوا كشفْنا عنْهُمْ عذاب الْخِزْيِ فِي الْحياةِ الدُّنْيا ومتّعْناهُمْ إِلى حِينٍ} (98: يونس) وفى هذا إشارة من أنباء الغيب إلى مستقبل هذه القرية، وهى مكة، وأن أهلها سيؤمنون، كما آمن قوم يونس.
فهؤلاء المشركون الذين يقفون هذا الموقف العنادىّ الضالّ من رسول اللّه، سوف يدخلون في دين اللّه، وسوف يرى فيهم النبي القوم المؤمنين الذين تقوم بأيديهم دولة الإسلام.. وغاية ما هناك أن يصبر النبىّ، وأن يحتمل هذا الموقف المتأزم بينه وبين قومه، فإن الضيق إلى فرج، وإن العسر إلى يسر.
وهكذا كانت الآية من البشريات المسعدة، التي بشّر بها النبي في قومه، الذين كان شديد الحرص على هدايتهم ونجاتهم من الهلاك الذي يتدافعون إليه.. وفى قوله تعالى: {وإِنْ يكادُ الّذِين كفرُوا ليُزْلِقُونك بِأبْصارِهِمْ لمّا سمِعُوا الذِّكْر ويقولون إِنّهُ لمجْنُونٌ}.
هو حال من فاعل الفعل في قوله تعالى: {واصْبِرْ لِحُكْمِ ربِّك}.. والفاعل هو ضمير يعود إلى النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه، المتلقّى لخطاب ربّه.. أي فاصبر لحكم ربك، وإن كان قومك يرمونك بنظراتهم القاتلة.
فاللّه سبحانه وتعالى، إذ يدعو النبي إلى الصبر على المكاره التي يحملها من قومه، يدعوه إلى هذا في حال بلغت فيه عداوة قومه غايتها، حتى إنهم ليكادون يزلقونه أي يسقطونه فزعا من نظراتهم المصوّبة إليه بسهام الحنق والغيظ والانتقام.. فهم حين يستمعون إلى الذكر- وهو القرآن الكريم- تغلى مراجل غيظهم، فتنطلق من أعينهم نظرات ملتهبة كأنها السهام، فإذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم هذه النظرات تنوشه من كل جانب، فزع، وكرب وكاد يسقط من هول ما يطلع عليه من عداوة القوم!! وللعين قدرتها الخارقة على إظهار مكنون الإنسان، من حبّ أو بغض، ومن وعد أو وعيد، فهى المرآة التي تنعكس عليها مشاعر الإنسان، ويتجلى على صفحتها ما يعتمل في كيانه من رضا أو سخط، ومن سكينة أو فزع، حتى ليبلغ الأمر أن تكون العين سلاحا قاتلا، يصيب مقاتل من يرمى بها.. وفى هذا يقول الشاعر، في أعداء التقوا بنظراتهم المتوعدة بالشر، قبل أن يلتقوا بسيوفهم المسلولة للقتال.. يقول:
يتقارضون إذا التقوا في موطن ** نظرا يزيل مواقع الأقدام

وفى النظرة الحاسدة شيء من هذا، فإنها ترمى المحسود، في غفلة منه، فتصيب منه مقتلا.. لأنها نظرة منطلقة من قلب يغلى كمدا، وحسرة، على ما بيد المحسود من نعمة اللّه.
وليس هذا ما لقدرة العين وسلطانها في الإنسان وحده، بل إنها عند كثير من الحيوانات تكون سلاحا عاملا في الصراع الدائر بينها..
فالحيّة، كثيرا ما تجد في نفسها القدرة على إصابة عدوّها بنظرة منها، فإذا أرسلت إلى عدوها نظرة والتقت عينه بعينها، شلت حركته وجمد في مكانه، وربّما مات قبل أن تصل إليه..!
فالصبر الذي يدعى إليه النبي من ربه، هو في تلك الحال، التي بلغت فيه عداوة القوم له غايتها، بما يرمونه به من نظرات ملتهبة، حين يسمعون آيات اللّه تتلى عليهم.. وليس هذا النظر المشحون بسموم العداوة وحسب، بل إنهم يرمونه مع هذا بسهام أخرى من أفواههم، كقولهم: مجنون، وساحر..
وقوله تعالى: {وما هُو إِلّا ذِكْرٌ لِلْعالمِين}..
هو رد على هذه التهمة الفاجرة الظالمة التي تنطلق بها أفواه هؤلاء المشركين، وهو تثبيت للنبى في موقفه، وإلفات له إلى ما بين يديه من آيات القرآن الكريم، الذي هو ذكر للعالمين، وحياة مجددة للناس، جيلا بعد جيل، وإنه لا ذكر، ولا قدر لمن فاته الاتصال بهذا الكتاب، وتلقّى عنه، وقطع مسيرة الحياة في ظله، وهذا مثل قوله سبحانه وتعالى: {وإِنّهُ لذِكْرٌ لك ولِقوْمِك وسوْف تُسْئلُون} (44: الزخرف). اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فاصْبِرْ لِحُكْمِ ربِّك ولا تكُنْ كصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وهُو مكْظُومٌ (48)}
تفريع على ما تقدم من إبطال مزاعم المشركين ومطاعنهم في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وما تبعه من تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بعاقبة النصر، وذلك أن شدته على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من شأنها أن تُدخل عليه يأْسا من حصول رغبته ونجاح سعيه، ففرع عليه تثبيتهُ وحثه على المصابرة واستمراره على الهدْي، وتعريفه بأن ذلك التثبيت يرفع درجته في مقام الرسالة ليكون من أولي العزم، فذكّره بمثل يونس عليه السلام إذْ استعجل عن أمر ربّه، فأدبه الله ثم اجتباه وتاب عليه وجعله من الصالحين تذكيرا مرادا به التحذير.
والمراد بحكم الربّ هنا أمره وهو ما حُمله إياه من الإِرسال والاضطلاع بأعباء الدعوة.
وهذا الحكم هو المستقرا من آيات الأمر بالدعوة التي أولها {يا أيها المدثر قم فأنذر} إلى قوله: {ولربك فاصبر} [المدثر: 17] فهذا هو الصبر المأمور به في هذه الآية أيضا.
ولا جرم أن الصبر لذلك يستدعي انتظار الوعد بالنصر وعدم الضجر من تأخره إلى أمده المقدر في علم الله.
وصاحب الحوت: هو يونس بن متّى، وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق} إلي قوله: {ويونس} في سورة الأنعام (84-86).
والصاحب: الذي يصحب غيره، أي يكون معه في بعض الأحوال أو في معظمها، وإطلاقه على يونس لأن الحوت التقمه ثم قذفه فصار (صاحبُ الحوت) لقبا له لأن تلك الحالة معيّة قوية.
وقد كانت مؤاخذةُ يونس عليه السلام على ضجره من تكذيب قومه وهم أهل نِينوى كما تقدم في سورة الصافات.
و {إذْ} طرف زمان وهو وجملته متعلق باستقرار منصوب على الحال أي في حالة وقت ندائه ربّه، فإنه ما نادى ربّه إلاّ لإِنقاذه من كربه الذي وقع فيه بسبب مغاضبته وضجره من قومه، أي لا يكن منك ما يلجئك إلى مثل ندائه.
والمكظوم: المحبوس المسدود عليه يقال: كظم الباب أغلقه وكظم النهر إذا سده، والمعنى: نادى في حال حبسه في بطن الحوت.
وجيء بهذه الحال جملة اسمية لدلالتها على الثبات، أي هو في حبس لا يرجى لمثله سراح، وهذا تمهيد للامتنان عليه بالنجاة من مثل ذلك الحبس.
وقوله: {لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنُبذ بالعراء} إلخ استئناف بياني ناشئ عن مضمون النهي من قوله: {ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى} إلخ لأنه يتضمن التحذير من الوقوع في كرب من قبيل كرب يونس ثم لا يدري كيف يكون انفراجه.
و {أنْ} يجوز أن تكون مخففة من (أنّ)، واسمها ضمير شأن محذوف، وجملة {تداركه نعمة من ربّه} خبرها.
ويجوز أن تكون مصدرية، أي لولا تدارك رحمة من ربّه.
والتدارك: تفاعل من الدرك بالتحريك وهو اللحاق، أي أن يلحق بعضُ السائرين بعضا وهو يقتضي تسابقهم وهو هنا مستعمل في مبالغة إدراك نعمة الله إياه.
والنبذ: الطرح والترك.
والعراء ممدودا: الفضاء من الأرض الذي لا نبات فيه ولا بناء.
والمعنى: لنبذهُ الحوت أو البحر بالفضاء الخالي لأن الحوت الذي ابتلعه من النوع الذي يُرضع فراخه فهو يقترب من السواحل الخالية المترامية الأطراف خوفا على نفسه وفراخه.
والمعنى: أن الله أنعم عليه بأن أنبت عليه شجرة اليقطين كما في سورة الصافات.
وأُدمج في ذلك فضل التوبة والضراعة إلى الله، وأنه لولا توبته وضراعته إلى الله وإنعام الله عليه نعمة بعد نعمة لقذفه الحوت من بطنه ميتا فأخرجه الموج إلى الشاطئ فلكان مُثْلة للناظرين أو حيّا منبوذا بالعراء لا يجد إسْعافا، أو لنجا بعد لأي والله غاضب عليه فهو مذموم عند الله مسخوط عليه.
وهي نعم كثيرة عليه إذ أنقذه من هذه الورطات كلها إنقاذا خارقا للعادة.
وهذا المعنى طوي طيا بديعا وأشير إليه إشارة بليغة بجملة {لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء وهو مذموم}.
وطريقة المفسرين في نشر هذا المطوي أن جملة {وهو مذموم} في موضع الحال وأن تلك الحال قيد في جواب {لولا}، فتقدير الكلام: لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء نبذا ذميما، أي ولكن يونس نبذ بالعراء غير مذموم.
والذي حملهم على هذا التأويل أن نبذه بالعراء واقع فلا يستقيم أن يكون جوابا للشرط لأن {لولا} تقتضي امتناعا لوُجودٍ، فلا يكون جوابها واقعا فتعين اعتبار تقييد الجواب بجملة الحال، أي انتفى ذمه عند نبذه بالعراء.
ويلوح لي في تفصيل النظم وجه آخر وهو أن يكون جواب {لولا} محذوفا دل عليه قوله: {وهو مكظوم} مع ما تفيده صيغة الجملة الاسمية من تمكن الكظم كما علمت آنفا، فتلك الحالة إذا استمرت لم يحصل نبذه بالعراء، ويكون الشرط بـ {لولا} لاحقا لجملة {إذ نادى وهو مكظوم}، أي لبقي مكظوما، أي محبوسا في بطن الحوت أبدا، وهو معنى قوله في سورة الصافات (143-144) {فلولا أنه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}، وتجعل جملة {لنُبِذ بالعراء وهو مذموم} استئنافا بيانيا ناشئا عن الإِجمال الحاصل من موقع {لولا}.
واللام فيها لام القسم للتحقيق لأنه خارق للعادة فتأكيده لرفع احتمال المجاز.
والمعنى: لقد نبذ بالعراء وهو مذموم.
والمذموم: إمّا بمعنى المذنب لأن الذنب يقتضي الذمّ في العاجل والعقاب في الآجل، وهو معنى قوله في آية الصافات (142) {فالتقمه الحوت وهو مُليم} وإِمّا بمعنى العيب وهو كونه عاريا جائعا فيكون في معنى قوله: {فنبذناه بالعراء وهو سقيم} [الصافات: 145] فإن السقم عيب أيضا.
وتنكير {نعمة} للتعظيم لأنها نعمة مضاعفة مكررة.
وفرع على هذا النفي الإِخبار بأن الله اجتباه وجعله من الصالحين.
والمراد بـ {الصالحين} المفضلون من الأنبياء، وقد قال إبراهيم عليه السلام {ربّ هب لي حكما وألحقني بالصالحين} [الشعراء: 83] وذلك إيماء إلى أن الصلاح هو أصل الخير ورفع الدرجات، وقد تقدم في قوله: {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين} في سورة التحريم (10).
قال ابن عباس: رد الله إلى يونس الوحي وشفعه في نفسه وفي قومه.
{وإِنْ يكادُ الّذِين كفرُوا ليُزْلِقُونك بِأبْصارِهِمْ لمّا سمِعُوا الذِّكْر ويقولون إِنّهُ لمجْنُونٌ (51)}
عطف على جملة {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} [القلم: 44]، عرّف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما تنطوي عليه نفوس المشركين نحو النبي صلى الله عليه وسلم من الحقد والغيظ وإضمار الشر عندما يسمعون القرآن.
والزلق: بفتحتين زلل الرجل من ملاسةِ الأرض من طين عليها أو دهن، وتقدم في قوله تعالى: {فتُصْبِح صعيدا زلقا} في سورة الكهف (40).
ولما كان الزلق يفضي إلى السقوط غالبا أطلق الزلق وما يشتق منه على السقوط والاندحاض على وجه الكناية، ومنه قوله هنا {ليزْلقونك} أي يسقطونك ويصرعونك.
وعن مجاهد: أيْ ينفذونك بنظرهم.
وقال القرطبي: يقال زلق السهم وزهق، إذا نفذ، ولم أراه لغيره، قال الراغب قال يونس: لم يسمع الزلق والإِزلاق إلاّ في القرآن.اهـ.
قلت: وعلى جميع الوجوه فقد جعل الإِزلاق بأبصارهم على وجه الاستعارة المكنية، شبهت الأبصار بالسهام ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو فعل {يزلقونك} وهذا مثل قوله تعالى: {إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} [آل عمران: 155].
وقرأ نافع وأبو جعفر {يزلقونك} بفتح المثناة مضارع زلق بفتح اللام يزلق متعديا، إذا نحاه عن مكانه.
وجاء {يكاد} بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ذلك في المستقبل، وجاء فعل {سمعوا} ماضيا لوقوعه مع {لمّا} وللإِشارة إلى أنه قد حصل منهم ذلك وليس مجرد فرض.
واللام في {ليزلقونك} لام الابتداء التي تدخل كثيرا في خبر {إن} المكسورة وهي أيضا تفرق بين {إنْ} المخففة وبين (إنّ) النافية.
وضمير {إنه لمجنون} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حكاية لكلامهم بينهم، فمعاد الضمير كائن في كلام بعضهم، أو ليس للضمير معاد في كلامهم لأنه منصرف إلى من يتحدثون عنه في غالب مجالسهم.
والمعنى: يقولون ذلك اعتلالا لأنفسهم إذ لم يجدوا في الذكر الذي يسمعونه مدخلا للطعن فيه فانصرفوا إلى الطعن في صاحبه صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون لينتقلوا من ذلك إلى أن الكلام الجاري على لسانه لا يوثق به ليصرفوا دهماءهم عن سماعه، فلذلك أبطل الله قولهم: {إنه لمجنون} بقوله: {وما هو إلاّ ذكر للعالمين} أي ما القرآن إلاّ ذكر للناس كلهم وليس بكلام المجانين، وينتقل من ذلك إلى أن الناطق به ليس من المجانين في شيء.
والذكر: التذكير بالله والجزاء هو أشرف أنواع الكلام لأن فيه صلاح الناس.
فضمير {هو} عائد إلى غير مذكور بل إلى معلوم من المقام، وقرينةُ السياق تُرجع كلّ ضمير من ضميري الغيبة إلى معاده، كقول عباس بن مرداس:
عُدْنا ولولا نحن أحدق جمعُهم ** بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

أي لأحْرز الكفار ما جمّعه المسلمون.
وفي قوله: {ويقولون إنه لمجنون} مع قوله في أول السورة {ما أنت بنعمة ربّك بمجنون} [القلم: 2] محسن ردّ العجز على الصدر.
وقوله: {وما هو إلاّ ذكر للعالمين} إبطال لقولهم: {إنه لمجنون} لأنهم قالوه في سياق تكذيبهم بالقرآن فإذا ثبت أن القرآن ذكْر بطل أن يكون مبلّغه مجنونا.
وهذا من قبيل الاحتباك إذ التقدير: ويقولون إنه لمجنون وإِن القرآن كلام مجنون، وما القرآن إلاّ ذكر وما أنت إلاّ مُذكر. اهـ.